لقد عاش المسلمون منذ مبعث النبي صلى الله عليه وسلم حتى وقتنا هذا، في صراع مع أعداء الإسلام, والله تعالى كان يؤيد من عباده، من ينهض ويقوم بالدفاع عن المسلمين، فهذه سنة الله في الكون، ونور الدين محمود رحمه الله، كان كالقمر ليلة البدر في سماء نصرة السنة وعز المسلمين، فكان حقًا ناصرًا للسنة.
مولده ونشأته:
هو أبو القاسم نور الدين محمود بن الأتابك زنكي صاحب الشام ولد سنة 511 هـ [مسألة في الكنائس، ابن تيمية، (1 47)]، وكان مولده (وقت طلوع الشمس من يوم الأحد السابع عشر من شوال) [البداية والنهاية، ابن كثير، (12 277)]، وهو ثاني أولاد عماد الدين زنكي بعد سيف الدين غازي.
وقد تأثر أبناء عماد الدين بما كان لأبيهم من خلال وفضائل، فكانوا جميعًا من رجال الجهاد وفرسانه، على تفاوت في ذلك بينهم [الموسوعة الحرة ويكيبديا].
إيمانه وأخلاقه:
يقول ابن كثير رحمه الله عن نور الدين محمود: (كان شهمًا شجاعًا ذا همة عالية وقصد صالح وحرمة وافرة وديانة بينة) [البداية والنهاية، ابن كثير، (12 278)].
(وكان كثير المطالعة للكتب الدينية متبعًا للآثار النبوية، مواظبًا على الصلوات في الجماعات، عاكفًا على تلاوة القرآن، عفيف البطن والفرج، مقتصدًا في الإنفاق، متحريًا في المطاعم والملابس، لم تسمع منه كلمة فحش.
ومن زهده وتقواه أنه كان لا يأكل ولا يلبس إلا من ملك كان له اشتراه من سهمه من الغنيمة، ومن الأموال المرصدة لمصالح المسلمين، وقد شكت إليه زوجته الضائقة وزيادة النفقة فاحمر وجهه وقال: "من أين أعطيها ما يكفيها، والله لا أخوض نار جهنم في هواها، ثم قال: لي بمدينة حمص ثلاثة دكاكين ملكًا، قد وهبتها إياها فلتأخذها".
وكان عارفًا بالفقه على مذهب أبي حنيفة، وليس عنده تعصب، بل الإنصاف سجيته في كل شيء، وعلى الحقيقة فهو الذي جدد للملوك اتباع سنة العدل والإنصاف، وترك المحرمات من المأكل والمشرب والملبس، فإنهم كانوا قبل ذلك كالجاهلية همة أحدهم بطنه وفرجه، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا، وأما عدله فإنه كان أحسن الملوك سيرة، فلم يترك في بلاده ضريبة ولا مكسًا ولا غشًا، بل منعها في بلاد الشام والجزيرة ومصر.
وعنه قال ابن الأثير: "كان يصلي كثيرًا من الليل ويدعو ويستغفر ولا يزال كذلك إلى أن يركب".
وقال أيضًا: "طالعت تواريخ الملوك المتقدمين قبل الإسلام وبعده إلى يومنا هذا فلم أر بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن سيرة منه") [صفحات من التاريخ الإسلامي (الدولة الفاطمية)، على محمد محمد الصلابي (1 119)، بتصرف].
وكان نور الدين محمود معتنيًا رحيمًا بالفقراء وعلاج مرضى المسلمين فقد (أنشأ الملك العادل نور الدين البيمارستان الكبير) [القانون فى الطب، ابن سينا، (6 337)]، والبيمارستان هو المستشفى.
جهوده في نصرة الشريعة:
(كان أول عمل عظيم قام به هذا السلطان هو إنهاء الدولة العبيدية بمصر، حيث عَزَل قضاتهم، وحوَّل سجونهم إلى مدارس لطلبة العلم) [مجلة البيان، العدد السادس، ص(16)].
وإذا كان إنهاء الدولة العبيدية بمصر هو أعظم عمل قام به، فقد كان له جهود كثيرة في نصرة الشريعة منها:
ـ نشره للحديث والعلم:
قام نور الدين محمود ببناء (أكبر دار للحديث في دمشق ووكل مشيختها إلى ابن عساكر صاحب "تبيين كذب المفتري"، كذلك أنشأ في حلب سنة 544هـ المدرسة النفرية النورية، وكانت للشافعية، وتولى التدريس فيها قطب الدين مسعود بن محمد النيسابوري، وكان أحد أساتذة المدرسة النظامية في نيسابور، وكان أحد أعلام أهل الكلام على المذهب الأشعري، ولا شك أن لهذه المدارس، والمدارس النظامية، متمثلة بأولئك العلماء الذين درسوا فيها أثرًا عظيمًا في مقاومة التيار الباطني الإسماعيلي) [موقف ابن تيمية من الأشاعرة، عبد الرحمن بن صالح المحمود، (ج1 20)].
كما قام نور الدين ببناء (بمدينة الموصل الجامع النوري، وبحماة الجامع الذي على نهر العاصي، وجامع الره، وجامع منبج) [مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان، اليافعي، (2 79)].
ـ تثبيته للمذهب السني:
في حلب:
(كان بنو حمدان يعتنقون المذهب الإمامي وقد أضاف سعد الدولة أبو المعالي (356-381 هـ 944-976م) للأذان عام 367هـ 977م عبارة (حي على خير العمل، محمد وعلي خير البشر)، واستمر الآذان على ذلك خلال عهود حكم آل مرداس وآل عقيل في حلب، وهناك قلة من الشيعة الإسماعيلية الذين ازداد نفوذهم زمن رضوان بن تتش، لذا كان المذهب الشيعي متغلغلًا في حلب، لذلك فقد قام نور الدين بالخطوات التالية:) [الموسوعة الحرة ويكيبديا].
ـ (زال السلطان نور الدين محمود بن زنكي صاحب دمشق من حلب الأذان بحي على خير العمل وسب الصحابة بها، وقال: من عاد إليه قتلته؛ فلم يعد أحد) [النجوم الزاهرة في ملوك مصر، ابن تغري بردي، (2 77)].
ـ (أنشأ المدارس لتدريس العلوم الإسلامية إحداهما حنفية وهي المدرسة الحلاوية، (543هـ 1148م)، وأسند بالتدريس فيها إلى برهان الدين أبي الحسن علي بن الحسن البلخي الذي استدعاه من دمشق، والمدرسة النورية الكبرى والمدرسة النورية الصغرى أو شافعية مثل المدرسة النفرية النورية (544هـ 1149م) لتدريس المذهب الشافعي، وتولى التدريس فيها قطب الدين النيسابوري، والمدرسة العصرونية والمدرسة الشعيبية وكليهما مدارس شافعية أيضًا.
ـ أوقف زاويتين بالمسجد الجامع في حلب وخصص إحداهما لفقهاء الحنابلة والأخرى للمالكية.
وفي دمشق:
- كانت دمشق العاصمة وأهم المدن في عهد نورالدين زنكي وقد عني بأنشاء الكثير من المباني والتي تحمل اسمه فأنشأ في دمشق مدارس التعليم الشرعي وركز اهتمامه على المذهبين الحنفي والشافعي، فأنشأ للحنفية المدرسة النورية الكبرى والمدرسة النورية الصغرى،كما أنشأ المدارس للمذهبين المالكي والحنبلي). [الموسوعة الحرة ويكيبديا بتصرف].
وتجدر الإشارة (أن سياسة نور الدين محمود الرشيدة تسعى لتوحيد المسلمين تحت قيادة واحدة ومنهج أصيل، فاستطاع أن يضم دمشق مع حلب والرها وغيرها من المدن الإسلامية التي حررها المسلمون بقوة السيف وحب الشهادة، وبدأ نور الدين في زحفه على حصون النصارى ومدنهم الواقعة بين مصر والشام، وكانت رغبة نور الدين في تخليص بلاد مصر من العبيديين الباطنيين الحاقدين حلفاء النصارى أمنية غالية ومطلبًا شرعيًا رفيعًا، فأرسل إلى مصر علماء وفقهاء ووعاظ لدعوة الناس، وتهيئة الرأي العام للفتح السني المجيد، وتخليص البلاد من نتن الروافض البغيض، ومن أشهر العلماء الذين قاموا بهذا الدور محمد بن الموفق الخبوشاني الذي دخل مصر في عام 560هـ وبدأ يبشر بالإسلام الصحيح) [صفحات من التاريخ الإسلامي، علي محمد محمد الصلابي، (1 129)].
ـ جهاده ضد الصليبيين:
(كان نور الدين دائم السعي إلى استمالة القوى الإسلامية المتعددة في الشام وشمال العراق وكسب ودها وصداقتها؛ لتستطيع مواجهة العدو الصليبي، فعقد معاهدة مع معين الدين أنر حاكم دمشق سنة (541هـ = 1147م) وتزوج ابنته، فلما تعرض لخطر الصليبيين وكانت تربطه بهم معاهدة وحلف لم يجد غير نور الدين يستجير به، فخرج إليه، وسارا معًا صاحب دمشق ونور الدين واستوليا على بصرى وصرخند في جنوب سوريا قبل أن يقعا في يد الصليبيين) [الموسوعة الحرة ويكيبديا بتصرف].
وكان نور الدين محمود حريصًا على أن يحذو حذو والده، فقد (سار نور الدين محمود على سياسة أبيه في قتال الصليبيين وتوحيد الشام، وحاصر الصليبيين في الرها، وهزمهم هزيمة منكرة، فكان هذا سببًا للحملة الصليبية الثانية لاستعادة الرها.
في عام 542هـ كانت الحملة الصليبية الثانية بقيادة ملك ألمانيا (كونراد الثالث) وملك فرنسا (لويس السابع)، وكان الهدف منها استعادة الرها بعد أن سقطت بيد آل زنكي.
اتجهت الحملة إلى دمشق وتصدى نور الدين محمود آل زنكي لهذه الحملة فباءت بالفشل وعاد ملك ألمانيا إلى بلاده ثم تبعه ملك فرنسا) [الانتصار على التتار، سامي بن خالد الحمود، (1 8)].
واستطاع نور الدين كذلك فتح أنطاكية وغير من المدن التي احتلها الصليبيون فقد (غزا نور الدين محمود بن زنكي فكسر الفرنج وقتل صاحب أنطاكية، وكانت وقعة عظيمة قتل فيها ألف وخمسمائة من الفرنج وأسر مثلهم وذل دين الصليب، ثم افتتح نور الدين حصن فامية.
وكان جوسلين قد ألهب الخلق بالأذية والغارات وهو صاحب تل باشر واعزاز وعينتاب والراوندان وبهسنا والبيرة ومرعش وغير ذلك فسار لحربه سلحدار نور الدين فأسره جوسلين فدس نور الدين جماعة من التركمان: من جاءني بجوسلين أعطيته مهما طلب، فنزلوا بأرض عنتاب، فأغار عليهم جوسلين وأخذ امرأة مليحة فأعجبته وخلا بها تحت شجرة.
فكمن له التركمان وأخذوه أسيرًا حقيرًا، وأحضروه الى نور الدين فأعطى الذي أسره عشرة آلاف دينار، وكان أسره فتحًا عظيمًا، واستولى نور الدين على أكثر بلاده) [تاريخ الإسلام، الذهبي، (1 3742)].
وفاته:
في عام 569هـ (توفي الملك العادل نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي أقسنقر صاحب الشام وديار الجزيرة وغير ذلك يوم الأربعاء حادي عشر شوال بعلة الخوانيق بقلعة دمشق المحروسة) [تاريخ أبى الفداء، الملك المؤيد إسماعيل بن أبي الفداء، (2 286)].
المراجع:
• مسألة في الكنائس، ابن تيمية.
• البداية والنهاية، ابن كثير.
• صفحات من التاريخ الإسلامي (الدولة الفاطمية)، على محمد محمد الصلابي.
• القانون فى الطب، ابن سينا.
• مجلة البيان، العدد السادس.
• موقف ابن تيمية من الأشاعرة، عبد الرحمن بن صالح المحمود.
• مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان، اليافعي.
• النجوم الزاهرة في ملوك مصر، ابن تغري بردي.
• الانتصار على التتار، سامي بن خالد الحمود.
• تاريخ الإسلام، الذهبي.
• تاريخ أبى الفداء، الملك المؤيد إسماعيل بن أبي الفداء.
الكاتب: مصطفى كريم
المصدر: موقع لواء الشريعة